فصل: قال أبو البقاء العكبري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو البقاء العكبري:

سورة التكاثر:
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {لو تعلمون} جواب لو محذوف: أي {لو} علمتم لرجعتم عن كفركم و{علم اليقين} مصدر.
قوله تعالى: {لترون} هو مثل لتبلون، وقد ذكر، ويقرأ بضم التاء على ما يسم فاعله، وهو من رؤية العين، نقل بالهمزة فتعدى إلى اثنين، ولا يجوز همز الواو لأن ضمها غير لازم، وقد همزها قوم كما همزوا واو اشتروا الضلالة، وقد ذكر، و{عين اليقين} مصدر على المعنى، لأن رأى وعاين بمعنى واحد، والله أعلم. اهـ.

.قال حميدان دعاس:

سورة التكاثر:
بسم الله الرحمن الرحيم

.[سورة التكاثر: آية 1]

{أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1)}
{أَلْهاكُمُ} ماض ومفعوله {التَّكاثُرُ} فاعل والجملة ابتدائية لا محل لها.

.[سورة التكاثر: آية 2]

{حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2)}
{حَتَّى} حرف غاية وجر {زُرْتُمُ} ماض وفاعله {الْمَقابِرَ} مفعول به والمصدر المؤول من أن المضمرة بعد حتى وما بعدها في محل جر بحتى والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

.[سورة التكاثر: آية 3]

{كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3)}
{كَلَّا سَوْفَ} حرف ردع وزجر وسوف للاستقبال {تَعْلَمُونَ} مضارع مرفوع والواو فاعله والجملة مستأنفة لا محل لها.

.[سورة التكاثر: آية 4]

{ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)}
معطوفة على ما قبلها.

.[سورة التكاثر: آية 5]

{كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)}
{كَلَّا} حرف ردع وزجر {لَوْ} حرف شرط غير جازم {تَعْلَمُونَ} مضارع مرفوع والواو فاعله {عِلْمَ الْيَقِينِ} مفعول به مضاف إلى اليقين والجملة ابتدائية لا محل لها.

.[سورة التكاثر: آية 6]

{لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)}
{لَتَرَوُنَّ} اللام واقعة في جواب قسم محذوف ومضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال والواو فاعله {الْجَحِيمَ} مفعول به والجملة جواب للقسم المحذوف لا محل لها.

.[سورة التكاثر: آية 7]

{ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7)}
{ثُمَّ} حرف عطف {لَتَرَوُنَّها} اللام واقعة في جواب قسم محذوف ومضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال والواو فاعله وها مفعول به {عَيْنَ الْيَقِينِ} عين صفة مفعول مطلق محذوف أي رؤية عين وهو مضاف إلى اليقين والجملة جواب للقسم المحذوف لا محل لها.

.[سورة التكاثر: آية 8]

{ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)}
{ثُمَّ} حرف عطف {لَتُسْئَلُنَّ} اللام واقعة في جواب قسم محذوف ومضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعله والنون نون التوكيد الثقيلة والجملة معطوفة على ما قبلها {يَوْمَئِذٍ} ظرف أضيف إلى مثله {عَنِ النَّعِيمِ} متعلقان بالفعل. اهـ.

.فصل في تخريج الأحاديث الواردة في السورة الكريمة:

قال الزيلعي:
سورة التكاثر فِيهَا حديثان:
1530- الحَدِيث الأول:
رُوِيَ «أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أكل هُوَ وَأَصْحَابه تَمرا وَشَرِبُوا عَلَيْهِ مَاء فَقال الْحَمد لله الَّذِي أطعمنَا وَسَقَانَا وَجَعَلنَا مُسلمين».
قلت غَرِيب بِهَذَا اللَّفْظ وَالَّذِي وجدته مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث عمار سَمِعت جَابر بن عبد الله يَقول أكل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم رطبا وَشَرِبُوا مَاء فَقال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «هَذَا من النَّعيم الَّذِي تسْأَلُون عَنهُ»انتهى.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه فِي النَّوْع الأول من الْقسم الرَّابِع.
وَلم يروه الطَّبَرِيّ وَابْن مرْدَوَيْه فِي تفسيريهما إِلَّا كَذَلِك.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سنَنه فِي الْأَطْعِمَة وَالتِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل وَالنَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَالليلة من حَدِيث رَبَاح بن عُبَيْدَة السّلمِيّ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قال: «كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا أكل طَعَاما قال الْحَمد لله الَّذِي أطعمنَا وَسَقَانَا وَجَعَلنَا مُسلمين» انتهى.
1531- الحَدِيث الثاني:
عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ {أَلْهَاكُم التكاثر...} لم يحاسبه الله بالنعيم الَّذِي أنعم عَلَيْهِ فِي دَار الدُّنْيَا وَأعْطِي من الْأجر كَأَنَّمَا قرأ ألف آيَة».
قلت رَوَاهُ الثَّعْلَبِيّ من حَدِيث سَلام بن سليم ثَنَا هَارُون بن كثير بِسَنَدِهِ الْمُتَقَدّم غير مرّة، وَرَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره بِسَنَدِهِ الأول فِي آل عمرَان، وَرَوَاهُ الواحدي فِي الْوَسِيط بِسَنَدِهِ فِي يُونُس. اهـ.

.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة التكاثر:
{ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر}. الخطاب للمشركين عبدة الأصنام، ويجوز أن يشمل كل عاكف على مآربه من عبيد الدنيا. ونحن عند التأمل في أحوال الناس، نجد من لا تمر الآخرة بباله. قد يسمع بالآخرة سماعا عابرا لا يحمله على ادخار شيء لها، ولا التعزى عن أحزانه بشيء فيها. وليست القصة الانشغال وراء ضرورات العيش. إنها منافسة مع الآخرين في جمع الحطام والظفر بأكبر حظ منه، ولا تنتهى هذه المنافسة إلا مع خمود الأنفاس ومداهمة الموت! وزيارة المقابر.. الحلول بها، والدفن فيها! وسميت زيارة لأن القبر ليس المثوى الأخير، إنه خارج منه بعد حين لاستكمال حسابه {ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون}. فالقبر معبر أو برزخ إلى ما وراءه.
{كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون} المعرفة المفاجئة عند معاينة دار الخلود. ثم قال لعبيد الحياة الدنيا {كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم}. لو أنكم صدقتم الرسل، لكان لكم سلوك آخر يقيكم عذاب الجحيم. إن المرء يستطيع أن يقى وجهه النار بشق تمرة! ولكنكم لم تفعلوا فلتلفحكم النار يوم الجزاء {ثم لترونها عين اليقين ثم لتسألن يومئذ عن النعيم}. في الآخرة يسأل الإنسان عن كل نعمة لم يشكرها بعدما استمتع بها، ويقال للكافرين {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها}. ما جدوى الاستمتاع والمكاثرة؟ استعدوا لعذاب الهون.
{ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون}. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة التكاثر:
أقول: هذه السورة واقعة موقع العلة لخاتمة ما قبلها، كأنه لما قال هناك: {فأُمهُ هاوية} قيل: لم ذلك؟ فقال: لأنكم {أَلهاكُم التكاثُر} فاشتغلتم بدنياكم، وملأتم موازينكم بالحطام، فخفت موازينكم بالآثام، ولهذا عقبها بسورة العصر، المشتملة على أن الإنسان في خُسر، بيان لخسارة تجارة الدنيا، وربح تجارة الآخرة، ولهذا عقبها بسورة الهمزة، المتوعد فيها من جمع مالًا وعدّده، يحسب أن ماله أخلده فانظر إلى تلاحم هذه السور الأربع، وحست اتساقها. اهـ.

.تفسير الآيات (1- 8):

قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
{بسم الله} ذي الجلال والإكرام (الرحمن) الذي عم بالإنعام، بالبيان- بعد الاتهام، والإيجاد بعد الإعدام (الرحيم) الذي خص أهل وده بدوةام نعمتهم بالإتمام.
التكاثر: (1- 8) {ألهاكم التكاثر}
ولما أثبت في القارعة أمر الساعة، وقسم الناس فيها إلى شقي وسعيد، وختم بالشقي، افتتح هذه بعلة الشقاوة ومبدأ الحشر لينزجر السامع عن هذا السبب ليكون من القسم الأول، فقال ما حاصله: انقسمتم فكان قسم منكم هالكًا لأنه {ألهكم} أي أغفلكم إلا النادر منكم غفلة عظيمة عن الموت الذي هو وحده كاف في البعث على الزهد فكيف بما بعده {التكاثر} وهو المباهاة والمفاخرة بكثرة الأعراض الفانية من متاع الدنيا: المال والجاه والبنين ونحوها مما هو شاغل عن الله، فكان ذلك موجبًا لصرف الهمة كلها إلى الجمع، فصرفكم ذلك إلى اللهو، فأغفلكم عما أمامكم من الآخرة والدين الحق وعن ذكر ربكم وعن كل ما ينجيكم من سخطه، أو عن المنافسة في الأعمال الموصلة إلى أعلى الدرجات بكثرة الطاعات، وذلك كله لأنكم لا تسلمون بما غلب عليكم من الجهل الذي سببه شهوة النفس وحب الراحة فخفت موازينكم، وحذف هذا الشيء الملهو عنه لتعظيمه والدلالة على أنه ليس غيره مما يؤسف على اللهو عنه.
ولما كانوا ينكرون البعث، ويعتقدون دوام- الإقامة في القبور، عبر بالزيارة إشارة إلى أن البعث لابد منه ولا مرية فيه، وأن اللبث في البرزخ وإن طال فإنما هو كلبث الزائر عند مزوره في جنب الإقامة بعد البعث في دار النعيم أو غار الجحيم، وأن الإقامة فيه محبوبة للعلم بما بعده من الأهوال والشدائد والأوجال، فقال: {حتى} أي استمرت مباهاتكم ومفاخرتكم إلى أن {زرتم المقابر} أي بالموت والدفن، فكنتم فيها عرضة للبعث لا تتمكنون من عمل ما ينجيكم لأن دار العمل فاتت كما أن الزائر ليس بصدد العلم عند المزور، لا يمكثون بها إلا ريثما يتكمل المجموعون بالموت كما أن الزائر معرض للرجوع إلى داره وحل قراره، فلو لم يكن لكم وازع عن الإقبال على الدنيا إلا الموت لكان كافيًا فكيف والأمر أعظم من ذلك؟ فإن الموت مقدمة من مقدمات العرض.
قال أبو حيان: سمع بعض الأعراب الآية فقال: بعث القوم للقيامة ورب الكعبة، فإن الزائر منصرف لا مقيم، وروى ابن أبي الدنيا عن عمر بن عبد العزيز أنه قرأها ثم قال: ما أرى المقابر إلا زيارة، ولابد لمن زار أن يرجع إلى بيته، إما إلى الجنة أو إلى النار.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تقدم ذكر القارعة وعظيم أهوالها، أعقب بذكر ما شغل وصد عن الاستعداد لها وألهى عن ذكرها، وهو التكاثر بالعدد والقرابات والأهلين فقال: {ألهاكم التكاثر} وهو في معرض التهديد والتقريع وقد أعقب بما يعضد ذلك وهو قوله: {كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون} ثم قال: {كلا لو تعلمون علم اليقين} وحذف جواب (لو) والتقدير: لو تعلمون علم اليقين لما شغلكم التكاثر، قال صلى الله عليه وسلم: {لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا} الحديث، وقوله تعالى: {لترون الجحيم} جواب لقسم مقدر أي والله لترون الجحيم، وتأكد بها التهديد وكذا ما بعد إلى آخر السورة- انتهى.
ولما كان الاشتغال بالتكاثر في غاية الدلالة على السفه لأن من المعلوم قطعًا أن هذا الكون على هذا النظام لا يكون إلا بصانع حكيم، وكان العقلاء المنتفعون بالكون في غاية التظالم، وكان الحكيم لا يرضى أصلًا أن يكون عبيده يظلم بعضهم بعضًا ثم لا يحكم بينهم ولا ينظر في مصالحهم علم قطعًا أنه يبعثه ليحكم بينهم لأنه كما قدر على إبدائهم يقدر على إعادتهم، وقد وعد بذلك وأرسل به رسله وأنزل به كتبه، فثبت ذلك ثبوتًا لا مرية فيه ولا مزيد عليه، وكان الحال مقتضيًا لأن يردع غاية الردع من أعرض عما يعنيه وأقبل على ما لا يعنيه، فقال سبحانه معبرًا بأم الروادع، وجامعة الزواجر والصوادع: {كلا} أي ارتدعوا أتم ردع وانزجروا أعظم زجر عن الاشتغال بما لا يجدي، فإنه ليس الأمر كما تظنون من أن الفخر في المكاثرة بالأعراض الدنيوية ولم تخلقوا لذلك، إنما خلقتم لأمر عظيم، فهو الذي يهمكم فاشتغلتم عنه بما لا يهمكم- فكنتم لاهين كمن كان يكفيه كل يوم درهم فاشتغل بتحصيل أكثر، وكذا من ترك المهم من التفسير واشتغل بالأقوال الشاذة أو ترك المهم من الفقه واشتغل بنوادر الفروغ وعلل النحو وغيرها وترك ما هو أهم منه مما لا عيش له إلا به.
ولما كان الردع لا يكون إلا عن ضار يجر وبالًا وحسرة، دل على ذلك بقوله استئنافًا: {سوف} أي بعد مهلة طويلة يتذكر فيها من تذكر {تعلمون} أي يتجدد لكم العلم بوعد لا خلف فيه بما أنتم عليه من الخطإ عند معاينة ما يكشفه الموت ويجر حزنه الفوت من عاقبة ذلك ووباله.
ولما كان من الأمور ما لو شرح شأنه على ما هو عليه لطال وأدى إلى الملال، دل على أن شرح هذا الوعيد مهول بقوله مؤكدًا مع التعبير بأداة التراخي الدالة على علو الرتبة: {ثم كلا} أي ارتدعوا ارتداعًا أكبر من ذلك لأنه {سوف تعلمون} أي يأتيكم العلم من غير شك وإن تأخر زمنه يسيرًا بالبعث.
ولما كان هذا أمرا صادعًا، أشار إلى أنه يكفي هذه الأمة المرحومة التأكيد بمرة، فقال مرددًا للأمر بين تأكيد الردع ثالثًا بالأداة الصالحة له ولأن تكون لمعنى- حقًا كما يقوله ائمة القراءة: {كلا} أي- ليشتد ارتداعهم عن التكاثر فإنه أساس كل بلاء فإنكم {لو تعلمون} أيها المتكاثرون.
ولما كان العلم قد يطلق على الظن رفع مجازه بقوله: {علم اليقين} أي لو يقع لكم علم على- وجه اليقين مرة من الدهر لعلمتم ما بين أيديكم، فلم يلهكم التكاثر ولضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون- فحذف هذا الجواب بعد حذف المفعول للتفخيم فهو إشارة إلى أنه لا يقين غيره، والمعنى أن أعمالكم أعمال من لا يتيقنه، قال الرازي: واليقين مركب الأخذ في هذا الطريق، وهو غاية درجات العامة، وأول خطوة الخاصة، قال عليه الصلاة والسلام: «خير ما ألقي في القلب اليقين» وعلم قبول ما ظهر من الحق وقبول ما غاب للحق والوقوف: على ما قام بالحق، والآية من الاحتباك: ذكر الإلهاء أولًا وحذف سببه وهو الجهل لدلالة الثاني عليه، وذكر ثانيًا العلم الذي هو الثمرة وحذف ما يتسبب عنه من عدم اللهو الذي هو ضد الأول، وزاد في التفخيم لهذا الوعيد بإيضاح المتوعد به بعد إبهامه مع قسم دل عليه بلامه، فقال: {لترون} أي بالمكاشفة وعزتنا، ولا يصح أن يكون هذا جوابًا لما قبله لأنه محقق {الجحيم} أي النار التي تلقى المعذبين بها بكراهة وتغيظ وعتو وشديد توقد، فالمؤمن يراها وينجو منها سواء خالطها أم لا والكافر يخلد فيها.
ولما كان هذا توعدًا على التكاثر لأنه يقتضي الإعراض عن الآخرة فيوقع في غمرات البلايا الكبار، أكد فقال مفخمًا له بحرف التراخي: {ثم لترونها} وعزة الله، ورقي العلم عن رتبة الأول فقط فقال تعالى: {عين اليقين} أي الرؤية التي هي نفس اليقين، وذلك هو المعاينة بغاية ما يكون من صفاء العلم لكونه لا ريبة فيه فإن المشاهدة أعلى أنواع العلم، قال الرازي: وهو المغني بالاستدراك عن الاستدلال، وعن الخبر بالعيان، وخرق الشهود حجاب- العلم- انتهى.
ويجوز أن يكون هذا الثاني بالملامسة والدخول، فالمؤمن وارد والكافر خالد.
ولما كان من أهول الخطاب التهديد برؤية العذاب، زاد في التخويف بأنه لأجل أن يكون ما يعذب به العاصي عتيدًا، فإذا أوجب السؤال النكال كان حاضرًا لا مانع من إيقاعه في الحال، ولو لم يكن حاضرًا كان لمن استحقه في مدة إحضاره محال، فقال مفخمًا بأداة التراخي: {ثم} أي بعد أمور طويله عظيمة مهولة جدًا {لتسئلن} وعزتنا {يومئذ} أي إذ ترون الجحيم {عن النعيم} أي الذي أداكم التكاثر إليه حتى عن الماء البارد في الصيف والحار في الشتاء هل كان استمتاعكم به على وجه السرف لإرادة الترف أو كان لإرادة القوة للنشأة إلى الخير فلم يخرج عن السرف، فالمؤمن المطيع يسأل سؤال تشريف، والعاصي يسأل سؤال توبيخ وتأفيف، ولام النعيم قد تكون لمطلق الجنس وإليه يشير حديث أبي هرير رضي الله عنه عند الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم ضاف أبا الهيثم بن التيهان مع أبي بكر وعمر- رضى الله عنهما- فأطعمهم بسرًا ورطبًا وسقاهم ماء باردًا وبسط لهم بساطًا في ظل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذا من النعيم الذي تسألون عنه: ظل بارد ورطب طيب وماء بارد» وقد يكون للكمال فيكون من أعلام النبوة كما في حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه عند أحمد من وجه حسن إن شاء الله أنهم قالوا عند نزولها: أي نعيم وإنما هما الأسودان: التمر والماء، وسيوفنا على رقابنا والعدو حاضر، قال: «إن ذلك سيكون» له شاهد عند الطبراني عن ابن الزبير رضى الله عنهما، وعند الطبراني أيضًا عن الحسن البصري مرسلًا، فقد التحم آخرها بأولها على وجه هو من ألطف الخطاب، وأدق المسالك في النهي عما يجر إلى العذاب، لأن العاقل إذا علم أن بين يديه سؤالًا عن كل ما يتلذذ به علم أنه يعوقه ذلك في زمن السؤال عن لذ إذا ت الجنة العوال الغوال، فكان خوفه من مطلق السؤال مانعًا له عن التنعم بالمباح فكيف بالمكروه فكيف ثم كيف بالمحرم؟ فكيف إذا كان السؤال من ملك تذوب لهيبته الجبال؟ فكيف إذا كان السؤال على وجه العتاب؟ فكيف إذا جر إلى العذاب؟ فتأمل كلام خالقك ما ألطف إشاراته وأجل عباراته، في نذاراته وبشاراته- والله أرحم. اهـ.